الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ لِمُوسَى: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} وَعَنَوْا بِقَوْلِهِمْ"بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ": بِعَهْدِهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكَ أَنَّا إِنْ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ، كُشِفَ عَنَّا الرِّجْزُ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} قَالَ لَئِنْ آمَنَّا لَيَكْشِفَنَّ عَنَّا الْعَذَابَ. إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ قَيْلِهِمْ يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ، وَكَيْفَ سَمَّوْهُ سَاحِرًا وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ رَبَّهُ لِيَكْشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ؟ قِيلَ: إِنَّ السَّاحِرَ كَانَ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ: الْعَالِمُ، وَلَمْ يَكُنِ السِّحْرُ عِنْدَهُمْ ذَمًّا، وَإِنَّمَا دَعَوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ كَانَ: يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) يَقُولُ: قَالُوا: إِنَّا لَمُتَّبِعُوكَ فَمُصَدِّقُوكَ فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ، وَمُوَحِّدُوا اللَّهِ فَمُبْصِرُوا سَبِيلِ الرَّشَادِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} قَالَ: قَالُوا يَا مُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنُنَّ لَكَ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَلَمَّا رَفَعْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَا بِهِمْ، الَّذِي وَعَدُوا أَنَّهُمْ إِنْ كُشِفَ عَنْهُمُ اهْتَدَوْا لِسَبِيلِ الْحَقِّ، إِذَا هُمْ بَعْدَ كَشْفِنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدُونَا: يَقُولُ: يَغْدِرُونَ وَيُصِرُّونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَيَتَمَادَوْنَ فِي غَيِّهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}: أَيْ يَغْدِرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} مِنَ الْقِبْطِ، فَ {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} يَعْنِى بِقَوْلِهِ: (مِنْ تَحْتِي): مِنْ بَيْنِ يَدِي فِي الْجِنَانِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} قَالَ: كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتٌ وَأَنْهَارُ مَاءٍ. وَقَوْلُهُ: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) يَقُولُ: أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْخَيْرِ، وَمَا فِيهِ مُوسَى مِنَ الْفَقْرِ وَعَيِّ اللِّسَانِ، افْتَخَرَ بِمُلْكِهِ مِصْرَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَمَا قَدْ مُكِّنَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَحَسِبَ أَنَّ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ نَالَهُ بِيَدِهِ وَحَوْلِهُ، وَأَنَّ مُوسَى إِنَّمَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الَّذِي يَصِفُهُ، فَنَسَبَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إِلَى الْمَهَانَةِ مُحْتَجًّا عَلَى جَهْلَةِ قَوْمِهِ بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كَانَ مُحِقًّا فِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سِحْرًا، لَأَكْسَبَ نَفْسَهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ، مِثْلَ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ جَهْلًا بِاللَّهِ وَاغْتِرَارًا مِنْهُ بِإِمْلَائِهِ إِيَّاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ بَعْدَ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَبَيَانِ لِسَانِهِ وَتَمَامِ خَلْقِهِ، وَفَضْلِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى بِالصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَمُوسَى: أَنَا خَيْرٌ أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَصِفَتِي هَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ {أَمْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} لَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالْأَمْوَالِ مَعَ الْعِلَّةِ الَّتِي فِي جَسَدِهِ، وَالْآفَةِ الَّتِي بِلِسَانِهِ، فَلَا يَكَادُ مِنْ أَجْلِهَا يُبَيِّنُ كَلَامَهُ؟. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (أَمْ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا: بَلْ أَنَا خَيْرٌ، وَقَالُوا. ذَلِكَ خَيْرٌ، لَا اسْتِفْهَامَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ: قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قَالَ: بَلْ أَنَا خَيِّرٌ مِنْ هَذَا. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ، هُوَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي جُعِلَ بِأَمْ لِاتِّصَالِهِ بِكَلَامٍ قَبْلَهُ. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}؟ وَإِذَا وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِمَّا تُرِكَ ذِكْرُهُ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: أَنَا خَيْرٌ أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، أَمْ هُوَ؟. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ"أَمَّا أَنَا خَيْرٌ". حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْمَشْيَخَةِ أَنَّهُ بَلَّغَهُ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ قَرَأَ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ قِرَاءَةً مُسْتَفِيضَةً فِي قَرَءَاةِ الْأَمْصَارِ لَكَانَتْ صَحِيحَةً، وَكَانَ مَعْنَاهَا حَسَنًا، غَيْرَ أَنَّهَا خِلَافَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، فَلَا أَسْتُجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَوْ صَحَّتْ لَا كُلْفَةَ لَهُ فِي مَعْنَاهَا وَلَا مُؤْنَةَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ: أَمْ أَنَا (خَيْرٌ)؟ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي جُعِلَ بِأَمْ، لِاتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَوَجْهُهُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: أَأَنَّا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ؟ أَمْ هُوَ؟ ثُمَّ تُرِكَ ذِكْرُ أَمْ هُوَ، لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}: مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ مَا لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قَالَ: ضَعِيفٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قَالَ: الْمَهِينُ: الضَّعِيفُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} يَقُولُ: وَلَا يَكَادُ يُبَيِّنُ الْكَلَامَ مِنْ عِيِّ لِسَانِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}: أَيْ عَيِيِّ اللِّسَانِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} الْكَلَامَ. وَقَوْلُهُ: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} يَقُولُ: فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَى مُوسَى إِنْ كَانَ صَادِقًا أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَهُوَ جَمْعُ سُوَارٍ، وَهُوَ الْقُلْبُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْيَدِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} يَقُولُ: أَقْلِبَةٌ مِنْ ذَهَبَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}: أَيْ أَقْلِبَةٌ مِنْ ذَهَبَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ " فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ". وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي مَا عَلَيْهِ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى صَحِيحَةَ الْمَعْنَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَاحِدِ الْأَسَاوِرَةِ، وَالْأَسْوِرَةِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: الْأَسْوِرَةُ جَمْعُ إِسْوَارٍ قَالَ: وَالْأَسَاوِرَةُ جَمْعُ الْأَسْوِرَةِ؛ وَقَالَ: وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ أَسَاوِرَةٌ، فَإِنَّهُ أَرَادَ أَسَاوِيرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَجَعَلَ الْهَاءَ عِوَضًا مِنَ الْيَاءِ، مِثْلَ الزَّنَادِقَةِ صَارَتِ الْهَاءُ فِيهَا عِوَضًا مِنَ الْيَاءِ الَّتِي فِي زَنَادِيقَ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: مَنْ قَرَأَ (أَسَاوِرَةٌ) جَعَلَ وَاحِدَهَا إِسْوَارًا؛ وَمَنْ قَرَأَ (أَسْوِرَةٌ) جَعَلَ وَاحِدَهَا سُوَارًا؛ وَقَالَ: قَدْ تَكُونُ الْأَسَاوِرَةُ جَمْعَ أَسْوِرَةٍ كَمَا يُقَالُ فِي جَمْعِ الْأَسْقِيَةِ الْأَسَاقِي، وَفِي جَمْعِ الْأَكْرَعِ الْأَكَارِعُ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ قَدْ قِيلَ فِي سُوَارِ الْيَدِ: يَجُوزُ فِيهِ أَسْوَارٌ وَإِسْوَارٌ؛ قَالَ: فَيَجُوزُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ أَسَاوِرَةُ جَمْعَهُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاحِدُ الْأَسَاوِرَةِ إِسْوَارٌ؛ قَالَ: وَتَصْدِيقُهُ فِي قِرَاءَةِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ "فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ" فَإِنْ كَانَ مَا حُكِيَ مِنَ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي سُوَارِ الْيَدِ إِسْوَارٌ، فَلَا مُؤْنَةَ فِي جَمْعِهِ أَسَاوِرَةَ، وَلَسْتُ أَعْلَمُ ذَلِكَ صَحِيحًا عَنِ الْعَرَبِ بِرِوَايَةٍ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِسْوَارِ: الرَّجُلُ الرَّامِي، الْحَاذِقُ بِالرَّمْيِ مِنْ رِجَالِ الْعَجَمِ. وَأَمَّا الَّذِي يُلْبَسُ فِي الْيَدِ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَسْمَائِهِ عِنْدَهُمْ سُوَارًا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْأَسَاوِرَةِ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ أَسْوِرَةٍ عَلَى مَا قَالَهُ الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يَقُولُ: أَوْ هَلَّا إِنْ كَانَ صَادِقًا جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ قَدِ اقْتَرَنَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَتَتَابَعُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِأَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الْعِبَارَةِ عَلَى تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْشُونَ مَعًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} قَالَ: يَمْشُونَ مَعًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مُتَتَابِعِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا زَيْدٌ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}: أَيْ مُتَتَابِعِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُقَارِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} قَالَ: يُقَارِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَاسْتَخَفَّ فِرْعَوْنُ خَلْقًا مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْقِبْطِ، بِقَوْلِهِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ، فَقَبِلُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَأَطَاعُوهُ، وَكَذَّبُوا مُوسَى، قَالَ اللَّهُ: وَإِنَّمَا أَطَاعُوا فَاسْتَجَابُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ تَصْدِيقِهِ، وَتَكْذِيبِ مُوسَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ خَارِجِينَ بِخُذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، وَطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} يَعْنِي بِقَوْلِهِ: آسَفُونَا: أَغْضَبُونَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {فَلَمَّا آسَفُونَا} يَقُولُ: أَسْخَطُونَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَلَمَّا آسَفُونَا} يَقُولُ: لَمَّا أَغْضَبُونَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَلَمَّا آسَفُونَا}: أَغْضَبُونَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَلَمَّا آسَفُونَا} قَالَ: أَغْضَبُوا رَبَّهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {فَلَمَّا آسَفُونَا} قَالَ: أَغْضَبُونَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَلَمَّا آسَفُونَا} قَالَ: أَغْضَبُونَا، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ يَعْقُوبَ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} قَالَ: يَا حُزْنِي عَلَى يُوسُفَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قَالَ: أَغْضَبُونَا، وَقَوْلُهُ: {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} يَقُولُ: انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ بِعَاجِلِ الْعَذَابِ الَّذِي عَجَّلْنَاهُ لَهُمْ، فَأَغْرَقْنَاهُمْ جَمِيعًا فِي الْبَحْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ "فَجَعَلْنَاهُمْ سُلُفًا" بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ، تَوْجِيهًا ذَلِكَ مِنْهُمْ إِلَى جَمْعِ سَلِيفٍ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مَعْنٍ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَضَى سَلِيفٌ مِنَ النَّاسِ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ. وَإِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْجَمَاعَةَ وَالْوَاحِدَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، لِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْقَوْمِ: أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ، وَقَدْ يُجْمَعُ فَيُقَالُ: هُمْ أَسْلَافٌ؛ وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: " «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ أَسْلَافًا» ". وَكَانَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ يَقْرَأُ ذَلِكَ: "فَجَعَلْنَاهُمْ سُلَفًا" بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ، تَوْجِيهًا مِنْهُ ذَلِكَ إِلَى جَمْعِ سِلْفَةٍ مِنَ النَّاسِ، مِثْلَ أُمَّةٍ مِنْهُمْ وَقِطْعَةٍ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ، لِأَنَّهَا اللُّغَةُ الْجُوَدَاءُ، وَالْكَلَامُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَحَقُّ اللُّغَاتِ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ أَفْصَحُهَا وَأَشْهَرُهَا فِيهِمْ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: فَجَعَلْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْرَقْنَاهُمْ مَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ مُقَدَّمَةً يَتَقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ، كَفَّارَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَفَّارُ قَوْمِكَ لَهُمْ بِالْأَثَرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} قَالَ: قَوْمُ فِرْعَوْنَ كُفَّارُهُمْ سُلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} فِي النَّارِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} قَالَ: سَلَفَا إِلَى النَّارِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} يَقُولُ: وَعِبْرَةً وَعِظَةً يَتَّعِظُ بِهِمْ مَنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَيَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، مُجَاهِدٍ {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} قَالَ: عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا أَبُو ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}: أَيْ عِظَةً لِلْآخَرِينَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}: أَيْ عِظَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا} قَالَ: عِبْرَةً. وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَمَّا شَبَّهَ اللَّهُ عِيسَى فِي إِحْدَاثِهِ وَإِنْشَائِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ بِآدَمَ، فَمَثَّلَهُ بِهِ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، إِذَا قَوَّمُكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ ذَلِكَ يَضِجُّونَ وَيَقُولُونَ: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ مِنَّا إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَهُ إِلَهًا نَعْبُدُهُ، كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ؛ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَعْبُدَهُ كَمَا عَبَدَ قَوْمُ عِيسَى عِيسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا ذُكِرَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جَزِعَتْ قُرَيْشٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا ذَكَرْتَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَقَالُوا: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ إِلَّا أَنْ نَصْنَعَ بِهِ كَمَا صَنَعَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا ذُكِرَ عِيسَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَدْتَ إِلَى ذِكْرِ عِيسَى؟ قَالَ: وَقَالُوا: إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّتِ النَّصَارَى عِيسَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قِيلَ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ نُزُولِهَا: قَدْ رَضِينَا بِأَنْ تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} وَقَالُوا: أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَعْنِي قُرَيْشًا لَمَّا قِيلَ لَهُمْ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: فَمَا ابْنُ مَرْيَمَ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ هَذَا إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبَّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَبًّا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (يَصِدُّونَ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: "يَصُدُّونَ" بِضَمِّ الصَّادِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ (يَصِدُّونَ) بِكَسْرِ الصَّادِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي فَرْقِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِضَمِّ الصَّادِ، وَإِذَا قُرِئَ بِكَسْرِهَا، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ يَشُدُّ وَيَشِدُّ، وَيَنُمُّ وَيَنِمُّ مِنَ النَّمِيمَةِ. وَقَالَ آخَرُ: مِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ الصَّادَ فَمَجَازُهَا يَضِجُّونَ، وَمَنْ ضَمَّهَا فَمَجَازُهَا يَعْدِلُونَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَسَرَهَا: فَإِنَّهُ أَرَادَ يَضِجُّونَ، وَمَنْ ضَمَّهَا فَإِنَّهُ أَرَادَ الصُّدُودَ عَنِ الْحَقِّ. وَحُدِّثْتُ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: ثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، أَنَّ عَاصِمًا تَرَكَ يَصِدُّونَ مِنْ قِرَاءَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَرَأَ يَصُدُّونَ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ. حَدَّثَنِي عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَقِيَ ابْنَ أَخِي عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: إِنْ عَمَّكَ لَعَرَبِيٌّ، فَمَا لَهُ يُلْحِنُ فِي قَوْلِهِ: "إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ"، وَإِنَّمَا هِيَ (يَصِدُّونَ). وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ نَجِدْ أَهْلَ التَّأْوِيلِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، وَلَوْ كَانَ مُخْتَلِفًا مَعْنَاهُ، لَقَدْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ مَوْجُودًا وُجُودُ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُخْتَلِفَ الْمَعْنَى لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ تَأْوِيلَهُ: يَضِجُّونَ وَيَجْزَعُونَ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. ذِكْرُ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} يَقُولُ: يَضِجُّونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ الْمُغَيَّرَةِ الضَّبِيِّ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، وَكَانَ يُفَسِّرُهَا يَقُولُ: يَضِجُّونَ. ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}: أَيْ يَجْزَعُونَ وَيَضِجُّونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا (يَصِدُّونَ): أَيْ يَضِجُّونَ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يَصِدُّونَ). حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ مُشْرِكُو قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ: آلِهَتُنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا خَيْرٌ؟ أَمْ مُحَمَّدٌ فَنَعْبُدُ مُحَمَّدًا؟ وَنَتْرُكُ آلِهَتَنَا؟. وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ: " أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا ". ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ فِي حَرْفِ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ "وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا" يَعْنُونَ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ: آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ عِيسَى؟.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلٍ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} قَالَ: خَاصَمُوهُ، فَقَالُوا: يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عُبِدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ، فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ هَؤُلَاءِ قَدْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةَ عِيسَى. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَى قَوْلِهِ: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} قَالَ: عَبَدَ هَؤُلَاءِ عِيسَى، وَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ. وَقَوْلُهُ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.... إِلَى {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}. وَقَوْلُهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: مَا مَثَّلُوا لَكَ هَذَا الْمَثَلَ يَا مُحَمَّدُ وَلَا قَالُوا لَكَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا جَدَلًا وَخُصُومَةً يُخَاصِمُونَكَ بِهِ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا بِقَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي مَحَاجَّتِهِمْ إِيَّاكَ بِمَا يُحَاجُّونَكَ بِهِ طَلَبَ الْحَقَّ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} يَلْتَمِسُونَ الْخُصُومَةَ بِالْبَاطِلِ. وَذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: " «مَا ضَلَّ قَوْمٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَل» ". ذِكْرُ الرِّوَايَةَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا يَعْلَى قَالَ: ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدَى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ، وَقَرَأَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}... الْآيَة». حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكَنَدِيُّ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى كَأَنَّمَا صُبَّ عَلَى وَجْهِهِ الْخَلُّ، ثُمَّ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ"، ثُمَّ تَلَا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ». وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَمَا عِيسَى إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِنَا، أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ: وَجَعَلْنَاهُ آيَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِنَاهُ إِلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْنَا، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يَعْنِي بِذَلِكَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، مَا عَدَا ذَلِكَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنْ كَانَ إِلَّا عَبْدًا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} قَالُوا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أَحْسَبُهُ قَالَ: آيَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ آيَةً. قَوْلُهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَوْ نَشَاءُ مَعْشَرَ بَنِي آدَمَ أَهْلَكْنَاكُمْ، فَأَفْنَيْنَا جَمِيعَكُمْ، وَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةً يَخْلُفُونَكُمْ فِيهَا يَعْبُدُونَنِي وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} وَكَمَا قَالَ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، غَيْرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} يَقُولُ: يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} قَالَ: يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ بَدَلًا مِنْكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} قَالَ: يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَكَانَ بَنِي آدَمَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةً يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} قَالَ: خَلَفًا مِنْكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ) وَمَا الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَمِنْ ذِكْرِ مَا هِيَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مِنْ ذِكْرِ عِيسَى، وَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنَّ عِيسَى ظُهُورُهُ عِلْمٌ يُعْلَمُ بِهِ مَجِيءُ السَّاعَةِ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَنُزُولَهُ إِلَى الْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالِ الْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدَيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَثَلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ قَالَ: ثَنَا غَالِبُ بْنُ قَائِدٍ قَالَ: ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ"وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا أَدْرِي عَلِمَ النَّاسُ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَمْ لَمْ يَفْطَنُوا لَهَا؟ "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ" قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ" قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَا نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَرَأَهَا أَحَدُهُمَا"وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: آيَةٌ لِلسَّاعَةِ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ: الْقِيَامَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: خُرُوجُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قُبَلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} يَعْنِي خُرُوجَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَنُزُولَهُ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ حِينَ يَنْزِلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْهَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ) مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يُعْلِمُكُمْ بِقِيَامِهَا، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْهَا وَعَنْ أَهْوَالِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ" هَذَا الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ. وَاجْتَمَعَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} عَلَى كَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْتُ عَنْهُ فِي فَتْحِهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ: الْكَسْرُ فِي الْعَيْنِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لِلسَّاعَةِ، فَذَلِكَ مُصَحِّحُ قِرَاءَةِ الَّذِينَ قَرَءُوا بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: (لَعِلْمٌ). وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} يَقُولُ: فَلَا تَشُكُّنَّ فِيهَا وَفِي مَجِيئِهَا أَيُّهَا النَّاسُ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} قَالَ: تَشُكُّونَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: (وَاتَّبِعُونِ) يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَأَطِيعُونِ فَاعْمَلُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يَقُولُ: اتِّبَاعُكُمْ إِيَّايَ أَيُّهَا النَّاسُ فِي أَمْرِي وَنَهْيِ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، يَقُولُ: طَرِيقٌ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، بَلْ هُوَ قَوِيمٌ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا يَعْدِلَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ عَنْ طَاعَتِي فِيمَا آمُرُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ، فَتُخَالِفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَجُورُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَتَضِلُّوا {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِيهِ هَلَاكُكُُمْ، وَيَصُدُّكُمْ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، لِيُورِدَكُمُ الْمَهَالِكَ، مُبَيِّنٌ قَدْ أَبَانَ لَكُمْ عَدَاوَتَهُ، بِامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِأَبِيكُمْ آدَمَ، وَإِدْلَائِهِ بِالْغُرُورِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ حَسَدًا وَبَغْيًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِفَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْبَيِّنَاتِ، يَعْنِي بِالْوَاضِحَاتِ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَقِيلَ: عَنَى بِالْبَيِّنَاتِ: الْإِنْجِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْإِنْجِيلِ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} قِيلَ: عَنَى بِالْحِكْمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النُّبُوَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} قَالَ: النُّبُوَّةِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِشَوَاهِدِهِ، وَذَكَرْتُ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يَقُولُ: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قَالَ: مِنْ تَبْدِيلِ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى الْكُلِّ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِ لَبِيَدٌ؟ تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا *** أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَاَ قَالُوا: الْمَوْتُ لَا يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَوْ يَعْتَلِقُ النُّفُوسَ حِمَامُهَا، وَلَيْسَ لِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ كَبِيرُ مَعْنَى، لِأَنَّ عِيسَى إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي أَسْبَابِ دَيْنِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أُبَيِّنُ لَكُمْ بَعْضَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرُ دِينِهِمْ دُونَ مَا هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، فَلِذَلِكَ خَصَّ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُبَيِّنُهُ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ لَبِيَدٍ: "أَوْ يَعْتَلِقُ بَعْضِ النُّفُوسِ"، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ: أَوْ يَعْتَلِقُ نَفْسَهُ حِمَامُهَا، فَنَفْسُهُ مِنْ بَيْنِِ النُّفُوسِِ لَا شَكَّ أَنَّهَا بَعْضٌ لَا كُلٌّ. وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} يَقُولُ: فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِطَاعَتِهِ، وَخَافُوهُ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَأَطِيعُونِ فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنِ اتِّقَاءِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَقَبُولِ نَصِيحَتِي لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ عَلَيْنَا إِفْرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَإِخْلَاصُ الطَّاعَةِ لَهُ، رَبِّي وَرَبُّكُمْ جَمِيعًا، فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، لَا تَشْرِكُُوا مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ شَيْءٌ سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنِ اتِّقَاءِ اللَّهِ وَطَاعَتِي، وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْأُلُوهَةِ، هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ غَيْرَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ بِالْأَحْزَابِ، الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ: الْجَمَاعَةَ الَّتِي تَنَاظَرَتْ فِي أَمْرِ عِيسَى، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَقُولُونَ فِي عِيسَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَاخْتَلَفَ الْفِرَقُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ بَيْنِ مَنْ دَعَاهُمْ عِيسَى إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنِ اتِّقَاءِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَهُمِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنِ اخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ النَّصَارَى، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانُوا أَحْزَابًا مُبْتَسِلِينَ مُخْتَلِفِي الْأَهْوَاءِ مَعَ بَيَانِهِ لَهُمْ أَمْرَ نَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ لَهُمْ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. وَقَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- فَالْوَادِي السَّائِلُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ فِي جَهَنَّمَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِاللَّهِ، الَّذِينَ قَالُوا فِي عِيسَىابْنِ مَرْيَمَ بِخِلَافِ مَا وَصَفَ عِيسَى بِهِ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} يَقُولُ: مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ مُؤْلِمٍ، وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْإِيلَامِ، إِذْ كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي يُؤْلِمُهُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} قَالَ: مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} يَقُولُ: هَلْ يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، الْقَائِلُونَ فِيهِ الْبَاطِلَ مِنَ الْقَوْلِِ، إِلَّا السَّاعَةَ الَّتِي فِيهَا تَقُومُ الْقِيَامَةُ فَجْأَةً {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يَقُولُ: وَهُمْ لَا يُعْلِمُونَ بِمَجِيئِهَا.
الْقَوْل فِيتَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: الْمُتَخَالُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِلَّا الَّذِينَ كَانُوا تَخَالُّوا فِيهَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فَكُلُّ خُلَّةٍ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مُتَعَادُونَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فَكُلُّ خُلَّةٍ هِيَ عَدَاوَةٌ إِلَّا خُلَّةَ الْمُتَّقِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ، وَخَلِيلَانِ كَافِرَانِ، فَمَاتَ أَحَدُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنْ فَلَانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ، وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ وَيُخْبِرُنِي أَنِّي مُلَاقِيكَ يَارَبِّ فَلَا تَضِلُّهُ بَعْدِي وَاهْدِهِ كَمَا هَدَيْتَنِي وَأَكْرَمْهُ كَمَا أَكْرَمَتَنِي، فَإِذَا مَاتَ خَلِيلُهُ الْمُؤْمِنُ جُمِعَ بَيْنَهِمَا فَيَقُولُ: لِيُثْنِ أَحَدُكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ، وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ، وَيُخْبِرُنِي أَنِّي مُلَاقِيكَ، فَيَقُولُ: نِعْمَ الْخَلِيلُ، وَنِعْمَ الْأَخُ، وَنِعْمَ الصَّاحِبُ؛ قَالَ: وَيَمُوتُ أَحَدُ الْكَافِرِينَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنْ فُلَانًا كَانَ يَنْهَانِي عَنْ طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ، وَيَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ، وَيُخْبِرُنِي أَنِّي غَيْرُ مُلَاقِيكَ، فَيَقُولُ: بِئْسَ الْأَخُ، وَبِئْسَ الْخَلِيلُ، وَبِئْسَ الصَّاحِبُ. وَقَوْلُهُ: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ مِنْ عِقَابِي، فَإِنِّي قَدْ أَمِنْتُكُمْ مِنْهُ بِرِضَايَ عَنْكُمْ، وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ عَلَى فِرَاقِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الَّذِي قَدِمْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا فَارَقْتُمُوهُ مِنْهَا. وَذُكِرَ أَنَّ النَّاسَ يُنَادَوْنَ هَذَا النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَطْمَعُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى يَسْمَعَ قَوْلَهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فَيَيْأَسُ مِنْهَا عِنْدَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ سَمِعْتُ أَنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا فَزِعَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا عِبَادَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، قَالَ: فَيُتْبِعُهَا {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} قَالَ: فَيَيْأَسُ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، يَقُولُ: وَكَانُوا أَهْلَ خُضُوعٍ لِلَّهِ بِقُلُوبِهِمْ، وَقَبُولٍ مِنْهُمْ لِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حُنَفَاءُ لَا يَهُودُ وَلَا نَصَارَى، وَلَا أَهْلُ أَوْثَانٍ. وَقَوْلُهُ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَأَزْوَاجُكُمْ مَغْبُوطِينَ بِكَرَامَةِ اللَّهِ، مَسْرُورِينَ بِمَا أَعْطَاكُمُ الْيَوْمَ رَبُّكُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (تُحْبَرُونَ) وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا قَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَبَيَّنَّا الصَّحِيحَ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ عِنْدَنَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ مَا لَمْ يُذْكَرْ هُنَالِكَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}: أَيْ تَنْعَمُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: (تُحْبَرُونَ) قَالَ: تَنْعَمُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: (تُحْبَرُونَ) قَالَ: تُكْرَمُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} قَالَ: تَنْعَمُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: يُطَافُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ بِصِحَافٍ مَنْ ذَهَبٍ، وَهِيَ جَمْعٌ لِلْكَثِيرِ مِنَ الصَّحْفَةِ، وَالصَّحْفَةُ: الْقَصْعَةُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} قَالَ: الْقِصَاعُ. حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍقَالَ: ثَنَا بْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، مَنْ لَهُ قَصْرٌ فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفَ خَادِمٍ، فِي يَدِ كُلِّ خَادِمٍ صَحْفَةٌ سِوَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا، لَوْ فَتَحَ بَابَهُ فَضَافَهُ أَهْلُ الدُّنْيَا لِأَوْسَعَهُمْ ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقَمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: "إِنَّ أَخَسَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا مَنْ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ خَادِمٍ، مَعَ كُلِّ خَادِمٍ صَحْفَةٌ مَنْ ذَهَبٍ، لَوْ نَزَلَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَوْسَعَهُمْ، لَا يَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} وَلَهُمْ {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} ". حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: "مَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ غُلَامٍ، كُلُّ غُلَامٍ عَلَى عَمَلِ مَا عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ". وَقَوْلُهُ: (وَأَكْوَابٍ) وَهِيَ جَمْعُ كُوبٍ، وَالْكُوبُ: الْإِبْرِيقُ الْمُسْتَدِيرُ الرَّأْسِ، الَّذِي لَا أُذُنَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ، وَإِيَّاهُ عَنَى الْأَعْشَى بِقَوْلِهِ؟ صَرِيفِيَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُهَا *** لَهَا زَبَدٌ بَيْنَ كُوبٍ وَدَنِّ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (وَأَكْوَابٍ) قَالَ: الْأَكْوَابُ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا آذَانٌ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: يُطَافُ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِالطَّعَامِ فِي صِحَافٍ مَنْ ذَهَبٍ، وَبِالشُّرْبِ فِي أَكْوَابٍ مَنْ ذَهَبٍ، فَاسْتَغْنَى بِذَكَرِ الصِّحَافِ وَالْأَكْوَابِ مَنْ ذِكْرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، الَّذِي يَكُونُ فِيهَا لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ"وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ" يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِي نُفُوسُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَتَلَذُّ أَعْيُنُكُمْ {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يَقُولُ: وَأَنْتُمْ فِيهَا مَاكِثُونَ، لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِِ إِنِّي أُحِبُّ الْخَيْلَ، فَهَلْ فِي الْجَنَّةِ خَيْلٌ؟ فَقَالَ: "إِنْ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ إِنْ شَاءَ، فَلَا تَشَاءُ أَنْ تَرْكَبَ فَرَسًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطِيرُ بِكَ فِي أَيِّ الْجَنَّةِ شِئْتَ إِلَّا فَعَلَتْ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الْإِبِلَ، فَهَلْ فِي الْجَنَّةِ إِبِلٌ؟ فَقَالَ: "يَا أَعْرَابِيُّ إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَفِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنَاك» ". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَبَّارُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ السَّلَفِيِّ قَالَ: إِنَّ السِّرْبَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَتُظِلُّهُمُ السَّحَابَةُ، قَالَ: فَتَقُولُ: مَا أُمْطِرُكُمْ؟ قَالَ: فَمَا يَدْعُو دَاعٍ مِنَ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ لَيَقُولَ: أَمْطِرِينَا كَوَاعِبَ أَتْرَابًا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ قَالَ: قِيلَ لِمُجَاهِدٍ فِي الْجَنَّةِ سَمَاعٌ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَشَجَرًا يُقَالُ لَهُ الْعِيصِ، لَهُ سَمَاعٌ لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ إِلَى مَثَلِهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ حَبَّابٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، يَقُولُ: "إِنِ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِيَشْتَهِيَ الطَّائِرُ وَهُوَ يَطِيرُ، فَيَقَعُ مُتَفَلِّقًا نَضِيجًا فِي كَفِّهِ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ نَفْسُهُ، ثُمَّ يَطِيرُ، وَيَشْتَهِي الشَّرَابَ، فَيَقَعُ الْإِبْرِيقُ فِي يَدِهِ، وَيَشْرَبُ مِنْهُ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: (مَا تَشْتَهِيهِ) بِزِيَادَةِ هَاءٍ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ "تَشْتَهِي" بِغَيْرِ هَاءٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: يُقَالُ لَهُمْ: وَهَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي أَوْرَثَكُمُوهَا اللَّهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ جَهَنَّمَ بِمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْخَيِّرَاتِ. (لَكُمْ فِيهَا) يَقُولُ: لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَقُولُ: مِنَ الْفَاكِهَةِ تَأْكُلُونَ مَا اشْتَهَيْتُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} وَهُمُ الَّذِينَ اجْتَرَمُوا فِي الدُّنْيَا الْكُفْرَ بِاللَّهِ، فَاجْتُرِمُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} يَقُولُ: هُمْ فِيهِ مَاكِثُونَ. لَا يَفْتَّرُ عَنْهُمْ، يَقُولُ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَأَصْلُ الْفُتُورِ: الضَّعْفُ {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} يَقُولُ: وَهُمْ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ مُبْلِسُونَ، وَالْهَاءُ فِي فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْعَذَابِ. وَيُذْكَرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَهُمْ فِيهَا مُبْلِسُونَ" وَالْمَعْنَى: وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ مُبْلِسُونَ، وَالْمُبْلِسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هُوَ الْآيِسُ مِنَ النَّجَاةِ الَّذِي قَدْ قَنِطَ فَاسْتَسْلَمَ لِلْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}: أَيْ مُسْتَسْلِمُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} قَالَ: آيِسُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} مُتَغَيِّرٌ حَالُهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى الْإِبْلَاسِ بِشَوَاهِدِهِ، وَذِكْرَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا ظَلَمْنَا هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ بِفِعْلِنَا بِهِمْ مَا أَخْبَرْنَاكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّا فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ التَّعْذِيبِ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} بِعِبَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهُ، وَكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَجُحُودِهِمْ تَوْحِيدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَنَادَى هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ بَعْدَ مَا أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ جَهَنَّمَ، فَنَالَهُمْ فِيهَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا نَالَهُمْ، مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قَالَ: لِيُمِتْنَا رَبُّكَ، فَيَفْرَغُ مِنْ إِمَاتَتِنَا، فَذُكِرَ أَنَّ مَالِكًا لَا يُجِيبُهُمْ فِي وَقْتِ قَيْلِهِمْ لَهُ ذَلِكَ، وَيَدَعُهُمْ أَلَفَ عَامٍ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُجِيبُهُمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فَأَجَابَهُمْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ جِيرَانِهِ يُقَالُ لَهُ الْحَسَنُ، عَنْ نُوفٍ فِي قَوْلِهِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قَالَ: يَتْرُكُهُمْ مِئَةَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ النَّارِ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قَالَ: فَخَلَّى عَنْهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا لَا يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ أَجَابَهُمْ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}: قَالُوا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فَخَلَّى عَنْهُمْ مِثْلَيِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَجَابَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَبَسَ الْقَوْمُ بَعْدَ الْكَلِمَةِ، إِنْ كَانَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا أَرْبَعِينَ عَامًا فَلَا يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فَيَدَعُهُمْ أَوْ يُخَلِّي عَنْهُمْ مِثْلَ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَمَا نَبَسَ الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ إِنْ كَانَ إِلَّا الزَّفِيرَ وَالشَّهِيقَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ نَوْفٍ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قَالَ: يَتْرُكُهُمْ مِئَةَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ نَادَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قَالَ: مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، قَالَ: فَمَكَثُوا أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، قَالَ: فَأَجَابَهُمْ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قَالَ: يُمِيتُنَا، الْقَضَاءُ هَهُنَا الْمَوْتُ، فَأَجَابَهُمْ {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}. وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} يَقُولُ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَسُولَنَا مُحَمَّدًا بِالْحُقِّ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ}، قَالَ: الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْحَقِّ كَارِهُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَمْ أَبْرَمَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ أَمْرًا فَأَحْكَمُوهُ، يَكِيدُونَ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي جِئْنَاهُمْ بِهِ، فَإِنَّا مُحْكِمُونَ لَهُمْ مَا يُخْزِيهِمْ، وَيُذِلُّهُمْ مِنَ النَّكَالِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قَالَ: مُجْمِعُونَ: إِنْ كَادُوا شَرًّا كِدْنَا مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قَالَ: أَمْ أَجْمَعُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُجْمِعُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قَالَ: أَمْ أَحْكَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُحْكِمُونَ لِأَمْرِنَا. وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} يَقُولُ: أَمْ يَظُنُّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ أَنَّا لَا نَسْمَعُ مَا أَخْفَوْا عَنِ النَّاسِ مِنْ مَنْطِقِهِمْ، وَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ وَتَنَاجَوْا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَلَا نُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ لِخَفَائِهِ عَلَيْنَا. وَقَوْلُهُ: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ مَا تَنَاجَوْا بِهِ بَيْنَهُمْ، وَأَخْفَوْهُ عَنِ النَّاسِ مِنْ سِرِّ كَلَامِهِمْ، وَحَفَظَتْنَا لَدَيْهِمْ، يَعْنِي عِنْدَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ مَنْطِقٍ، وَتَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ ثَلَاثَةٍ تَدَّارَءُوا فِي سَمَاعِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَلَامُ عِبَادِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: ثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعُمَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «بَيْنَا ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، قُرَشِيَّانِ وَثَقِّفِيٌّ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، فَقَالَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ: أَتَرُونَ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا؟ فَقَالَ الْأَوَّلُ: إِذَا جَهَرْتُمْ سَمِعَ، وَإِذَا أَسْرَرْتُمْ لَمْ يَسْمَعْ، قَالَ الثَّانِي: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا أَعْلَنْتُمْ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَسْرَرْتُمْ، قَالَ: فَنَزَلَتْ {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ». وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} قَالَ: الْحَفَظَةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ. عَنْ قَتَادَةَ {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}: أَيْ عِنْدَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَعْنَى ذَلِكَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي قَوْلِكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، فَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ فِي تَكْذِيبِكُمْ، وَالْجَاحِدِينَ مَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّ لَهُ وَلَدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} كَمَا تَقُولُونَ {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، فَقُولُوا مَا شِئْتُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} قَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فِي قَوْلِكُمْ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ وَكَذَّبَكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: قُلْ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لَهُ بِذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الشَّاهِدِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ نَفْيٌ، وَمَعْنَى إِنَّ الْجَحْدَ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا كَانَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}: أَيْ إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَنْبَغِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} قَالَ: هَذَا الْإِنْكَافُ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، نَكْفُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وُلَدٌ، وَإِنَّ مِثْلَ"مَا" إِنَّمَا هِيَ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، لَيْسَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إِنَّمَا هِيَ: مَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، فَالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ وَقَضَاهُ مِنْ قَضَائِهِ أَثْبَتُ مِنَ الْجِبَالِ، وَ"إِنْ" هِيَ"مَا" إِنْ كَانَ مَا كَانَ تَقُولُ الْعَرَبُ: إِنْ كَانَ، وَمَا كَانَ الَّذِي تَقُولُ. وَفِي قَوْلِهِ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّحْمَنِ وُلِدٌ عَلَى هَذَا أَعْبُدُ اللَّهَ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} قَالَ: مَا كَانَ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} قَالَ: هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ، إِنْ كَانَ: مَا كَانَ، إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ: مَا كَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى"إِنْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ، قَالُوا: وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: لَوْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ بِذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} قَالَ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَلَكِنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلَ الْآنِفَيْنِ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْعَابِدِينَ إِلَى الْمُنْكِرِينَ الْآبِينَ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَدْ عَبِدَ فَلَانٌ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِذَا أَنِفَ مِنْهُ وَغَضِبَ وَأَبَاهُ، فَهُوَ يَعْبُدُ عَبْدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ؟ أَلَا هَوِيَتْ أُمُّ الْوَلِيدِ وَأَصْبَحَتْ *** لَمَّا أَبْصَرَتْ فِي الرَّأْسِ مِنِّي تَعَبَّدُ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ؟ مَتَى مَا يَشَأْ ذُو الْوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ *** وَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ظَالِمَا وَقَدْ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، ثَنِي قَالَ: ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي قُسَيْطٍ، عَنْ بَعْجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَيْضًا، فَوَلَدَتْ لَهُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَقَالَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَبَدَ عُثْمَانُ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهَا تُرَدُّ. قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عَبَدَ: اسْتَنْكَفَ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى: (إِنْ) الشَّرْطُ الَّذِي يَقْتَضِي الْجَزَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ"إِنْ" لَا تَعْدُو فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطُ الَّذِي يَطْلُبُ الْجَزَاءَ، أَوْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَهَبْ إِذَا وُجِّهَتْ إِلَى الْجَحْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ كَبِيرُ مَعْنَى، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى: قُلْ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَإِذَا صَارَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى أُوهِمَ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى بِذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ قَبْلَ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ أُحْدِثَ لَهُ الْوَلَدُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ لَقَدِرَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أَنْ يَقُولُوا لَهُ صَدَقْتَ، وَهُوَ كَمَا قُلْتُ، وَنَحْنُ لَمْ نَزْعُمْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ لَهُ وُلِدٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْجِنَّ فَصَاهَرَهُمْ، فَحَدَثَ لَهُ مِنْهُمْ وَلَدٌ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِيَحْتَجَّ لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى مُكَذِّبِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَإِذْ كَانَ فِي تَوْجِيهِنَا"إِنْ" إِلَى مَعْنَى الْجَحْدِ مَا ذَكَرْنَا، فَالَّذِي هُوَ أَشْبَهُ الْمَعْنِيِّينَ بِهَا الشَّرْطُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنَةُ صِحَّةِ مَا نَقُولُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ عَابِدِيهِ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ، فَأَنَا أَعْبُدُهُ بِأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ. وَإِذَا وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْإِلْطَافِ مِنَ الْكَلَامِ وَحُسْنِ الْخِطَابِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَأَنَّ مُخَالِفِيهِ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ. وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- تَبْرِئَةً وَتَنْزِيهًا لِمَالِكِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَالِكِ الْعَرْشِ الْمُحِيطِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَلْقٍ مِمَّا يَصِفُهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْكَذِبِ، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}: أَيْ يُكَذِّبُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَذَرْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ، الْوَاصِفَةَ بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا يَخُوضُوا فِي بَاطِلِهِمْ، وَيَلْعَبُوا فِي دُنْيَاهُمْ {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وَذَلِكَ يَوْمُ يُصْلِيهِمُ اللَّهُ بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَاللَّهُ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ فِي السَّمَاءِ مَعْبُودٌ، وَفِي الْأَرْضِ مَعْبُودٌ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ مَعْبُودٌ، لَا شَيْءَ سِوَاهُ تَصْلُحُ عِبَادَتُهُ؛ يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَأَفْرِدُوا لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ الْعِبَادَةَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا غَيْرَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} قَالَ: يُعْبَدُ فِي السَّمَاءِ، وَيُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أَيْ يُعْبَدُ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} يَقُولُ: وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ، وَتَسْخِيرِهِمْ لِمَا يَشَاءُ، الْعَلِيمُ بِمَصَالِحِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-، وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، جَارٍ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ حُكْمُهُ، مَاضٍ فِيهِمْ قَضَاؤُهُ. يَقُولُ: فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ شَرِيكًا مَنْ كَانَ فِي سُلْطَانِهِ وَحَكَمِهِ فِيهِ نَافِذٌ. {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} يَقُولُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ، وَيُحْشَرُ فِيهَا الْخَلْقُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ. قَوْلُهُ: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يَقُولُ: وَإِلَيْهِ أَيُّهَا النَّاسُ تُرَدُّونَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ، فَتَصِيرُونَ إِلَيْهِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا يَمْلِكُ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَعْبُدُهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِالسَّاعَةِ، الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ لِأَحَدٍ، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَأَطَاعَهُ، بِتَوْحِيدِ عِلْمٍ مِنْهُ وَصِحَّةٍ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} قَالَ: عِيسَى، وَعُزَيْرٌ، وَالْمَلَائِكَةٌ. قَوْلُهُ: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} قَالَ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حُقٌّ، وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُ: لَا يَشْفَعُ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ يَعْلَمُ الْحَقَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ: وَلَا تَمْلِكُ الْآلِهَةُ الَّتِي يَدْعُوهَا الْمُشْرِكُونَ وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَذَوُوهُمَا، وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْحَقِّ، فَأَقَرُّوا بِهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةً مَا شَهِدُوا بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ، قَدْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَهُمْ شَفَاعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} قَالَ: الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَعُزَيْرٌ، فَإِنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ شَهَادَةً. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَعْبُدُهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ لِأَحَدٍ، إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحُقِّ، وَشَهَادَتُهُ بِالْحَقِّ: هُوَ إِقْرَارُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ: إِلَّا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ تَوْحِيدِهِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِأَنَّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ مِلْكَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ بَعْضَ مَنْ كَانَ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ كَانَ تَعْبُدُ قُرَيْشٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآلِهَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْبُدُ مَنْ دُونِهِ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرُهُمْ، فَجَمِيعُ أُولَئِكَ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُو قُرَيْشٌ وَسَائِرُ الْعَرَبِ مَنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ. ثُمَّ اسْتَثْنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَيُوَحِّدُونَ اللَّهَ، وَيُخْلِصُونَ لَهُ الْوَحْدَانِيَّةَ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَيَقِينٍ بِذَلِكَ، أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُمْ بِهَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} فَأَثْبَتَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ مَلْكِهِمْ مِنَ الشَّفَاعَةِ مَا نَفَاهُ عَنِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ بِاسْتِثْنَائِهِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ: مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لِيَقُولُنَّ: اللَّهُ خَلَقَنَا. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} فَأَيُّ وَجْهٍ يَصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَيُحْرَمُونَ إِصَابَةَ الْحَقِّ فِي عِبَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَقِيلِهِ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ "وَقِيلَهُ" بِالنَّصْبِ. وَإِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ ذَلِكَ، كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وَنَسْمَعُ قِيلَهُ يَا رَبِّ. وَالثَّانِي: أَنْ يُضْمَرَ لَهُ نَاصِبٌ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: وَقَالَ قَوْلَهُ: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} وَشَكَا مُحَمَّدٌ شَكْوَاهُ إِلَى رَبِّهِ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ {وَقِيلِهِ} بِالْخَفْضِ عَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَعِلْمُ قِيلِهِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَهُ شَاكِيًا إِلَى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَمَا يَلْقَى مِنْهُمْ: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرَتْنِي بِإِنْذَارِهِمْ وَأَرْسَلَتْنِي إِلَيْهِمْ لِدُعَائِهِمْ إِلَيْكَ، قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} قَالَ: فَأَبَرَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} قَالَ: هَذَا قَوْلُ نَبِيِّكُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَشْكُو قَوْمَهُ إِلَى رَبِّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} قَالَ: هُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، جَوَابًا لَهُ عَنْ دُعَائِهِ إِيَّاهُ إِذْ قَالَ: "يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ" {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} يَا مُحَمَّدُ، وَأَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ (وَقُلْ) لَهُمْ (سَلَامٌ) عَلَيْكُمْ وَرُفِعَ سَلَامٌ بِضَمِيرِ عَلَيْكُمْ أَوْ لَكُمْ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ "فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، بِمَعْنَى: أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ، مَعَ قَوْلِهِ: (سَلَامٌ) وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بِالْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ، فَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} يَا مُحَمَّدُ {وَقُلْ سَلَامٌ}. ثُمَّ ابْتَدَأَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- الْوَعِيدَ لَهُمْ، فَقَالَ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْبَلَاءِ وَالنَّكَالِ وَالْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقِتَالِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} قَالَ: اصْفَحْ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُعَزِّي نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِِ الزُّخْرُفِ.
|